نُشر هذا المقال عام ٢٠١٦ على موقع «بي أوبن»، النسخة التجريبية لـ«منشور» كافتتاحية تلاها مقال توثيقي مطول.
قبيل ذكرى الثورة المصرية، يُهاتفني من الكويت صديقي عليّ، القائم على النسخة التجريبية لموقع منشور، ليطلب رأيي في موضوع ظننته في البداية يتعلق بالنسخة الجديدة التي نستعد لإطلاقِها، لكن دقائق قليلة تمر ليصل إلى جملته: «لا نُريد أن يمر الخامس والعشرون من يناير مرور الكرام».
أغُص بما قال ويواصل علي، يعرض أفكارًا مُقترحة للزاوية التي يمكن أن يُنظر منها. أستمع وأنا أحسَبُ أنه يريد رأيًا فقط فيما سيتولّى كُتَّاب أخرون الحديث عنه: هل نكتب عن «رموز الثورة المصرية»؟ أرد: مَن يحدد «الرموز»؟ وعلى أي أساس وقد تورَّط بعضهم في التعاون مع قتلة «رموز» آخرين؟ هل نسرد أحداثها؟ قد يكون ذلك مفيدًا لبعض القراء، لكنهم يستطيعون إيجاده في أماكن أخرى. ماذا عن آثارها الثقافية والفنية؟ تعجبني تلك الفكرة، لكن عليًّا يستمر في البحث، وأنا أستمر في إنصاتي السلبي. أحشر رأيي في أقصر عبارات ممكنة عندما أُسأل، ولا يزال يصعُب عليّ ابتلاع الجملة الأولى: «لا نريد أن يمُر الخامس والعشرون من يناير مرور الكرام».
من رؤية اقتصادية يطرحها عليّ ولا أراها قابلة للتطبيق على الواقع المصري، إلى حيرته التي لم تَرضَ بَعدْ، إلى محاولته الجديدة لاستنطاقي: يحكي لي عمَّا جرى للشخصية الكويتية بعد الغزو العراقي، ويسألني إن كان شيئًا شبيهًا قد تغيَّر في السيكولوجية المصرية.
في تلك اللحظة بالتحديد، أدرك كيف يمكن لمجموعة من البشر أن يعيشوا تجربةً هائلة بحجم الثورة، بينما يخفُت الصوت ويختلط على الناس الأمر ويكاد يتبدد الأثر كلما ابتعدنا عن مركز الحدث.
للمرة الأولى طوال المكالمة، أنخرط في الحديث لدقائق متواصلة عمَّا أراه قد حدث للنفسية المصرية، على الأقل تلك النفسية التي آمنت بالثورة، على الأقل تلك الثورة المصرية التي نعرفها. لا يقاطعني علي إلا مرتين: مرةً لإبداء الدهشة، ومرةً لحسم الأمر؛ فالمكالمة التي بدأتْ طلبًا لمجرد رأي تتطلع الآن إلى مقال، أو أكثر، يُفرغ ما استفزَّه سؤال عليّ.
لا أعود أحاول ابتلاع الجملة الأولى. أستجمع شتات ذاكرتي، ذاكرة الثورة التي نعرفها، وأخلط العلمي بالشخصي والحقائق بآثارها وتوابعها، وأستفرغ…
«لا نريد أن يمُر الخامس والعشرون من يناير مرور الكرام».
على يمين المُشاهد، يجلس مساعد لوزير الداخلية الأسبق، وإلى جانبه عضو بالبرلمان وبلجنة حقوق الإنسان فيه. أما على اليسار، فهناك محاميان. هذه الجلسة بعنوان «مناظرة بين مؤيد ومعارض لثورة يناير وقانون التظاهر». تأتيكم برعاية «مُرتضى منصور»، عضو مجلس الشعب الحالي الذي رفض الاعتراف بثورة الخامس والعشرين من يناير أثناء حَلفِه لليَمين في أولى جلسات البرلمان، أو الشخص الذي لا يوقِفهُ أحدٌ عن أن يُهدِّد ويَسبَّ ويلعَن مَن يُريد بأفحش الألفاظ على شاشات التليفزيون، في تعريفٍ أليَق.
يستغرقُ بعض أعضاء مجلس الشعب في مهاجمةِ الثورة المصرية التي اعترف بها الدستور الذي يجب عليهم العمل وفقه، وكأننا نعودُ الطريق كله إلى الوراء: يدافعُ «مالك عدلي»، محامٍ شاب، عن كَونِ ثورتنا ثورة وليست «مؤامرة»، ويُعرِّف نفسه كمحامٍ بدلًا من تعبير «ناشط قانوني» الذي استخدمته المذيعة وطالما نَفَرَت منه جماهير التليفزيون. تتصلُ سيدةٌ، يُفترض أنها من هؤلاء الجماهير، لتصفه بالخائن، وتهاجمه بحِدّة، ويرُد بحِدّة، ليتركنا نحن ندافع عن غضبِه، تمامًا كما كنا ندافع خلال الأيام الأولى عن حماسة الشباب الذين يظهرون على التليفزيون دون أن يخلعوا ثوبَ الميدان، بأولوياتِ «العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية للجميع»، يتحدثون بنفس حماسةِ الهتافِ فيُغضِبون جمهورًا يتابعهم في المنازل بحالةٍ مزاجيةٍ وادِعَة أولوياتها «عيش» ساندويتشات مدارس الأولاد في الصباح وحسب.
يُفترض أن نخرجَ من هذه الحلقة مقتنعين بأن علينا أن نتخذ موقفًا تجاه ما حدث طوال ثماني عشرة يومًا أُسقِط فيها مبارك، الذي أُدين وولداه بحكمٍ نهائيّ في جريمةٍ مُخِلَّةٍ بالشرف، وما تلا ذلك من معارك مع نظامه لم تنتهِ حتى الآن، وما كانَ وما يزال من قتلٍ وسحلٍ ودهسٍ وفقأ أعينٍ وتعريةٍ واختطافٍ وتعذيبٍ وظلمٍ وتعتيمٍ وتجهيلٍ و«تطبيل». يُفترض أن نسأل أنفسنا عن تعريفِ ما حدث، أن نُغالِط أعيُننا وذاكرتنا ونعود مع القيادات الأمنية السابقة، أو «الخبراء الأمنيين» بتعريف التليفزيون، ومع جماهير التليفزيون، ألف خطوةٍ إلى الوراء.
اقرأ أيضًا | ثورة ٢٥ يناير: تركة سنوات من الخذلان
أمام هذا المشهد، تُنتظر مِنَّا رِزمةُ تسليمات؛ فبهذه الصورة، تُخلَّد ذكرى فوز هؤلاء المُصوِرين بالمراكز الأولى في مسابقة «شوكان للتصوير الصحافي». أما «محمود عبد الشكور أبو زيد»، الشهير بـ«شوكان»، فهو مُصوِّر صحافيّ تعتقله السلطات المصرية دون تهمة منذ أغسطس 2013 حين كان يقوم بتغطية اعتصام جماعة الإخوان المسلمين بميدان «رابعة العدوية».
تُمثِّل الصور الفائزة، على الترتيب: مقتل «شيماء الصباغ» بميدان «طلعت حرب» في أثناء تظاهرة لـ«إحياء ذكرى الثورة» العام الماضي، واحتفالات جماهير نادي «الزمالك» بالفوز بدِرع الدوري (الصورة الوحيدة المُبتهجة، رغم ما فيها من نكهة الثورة ومكوِّناتها)، ومقتل طفل في أثناء تظاهرة بمنطقة «عين شمس» لـ«إحياء ذكرى» الخامس والعشرين من يناير 2015، وبُكاء «إسراء الطويل» أثناء جلسة لتجديد حبسها منذ أشهر، وانهيار زوجة المُقدم «مصطفى الوتيدي» في أثناء تشييع جنازته، وأخيرًا، مقتل متظاهر بقرية «ناهيا» في أول أيام عيد الأضحى الماضي.
هكذا يُراد لنا أن نعيش ونفوز ونحتفل: على صور البكاء والانهيار والقتل والظلم. هكذا اعتدنا على الهيستيريا والموت حدَّ أن خرجت تلك الصور، ومثلها أو أقسى، كأفضل ما لدينا.
«إنَّ فِعل التذَكُّر والحفاظ على الذاكرة الجَمْعية، في مواجهة محاولات النظام لمراجعة تاريخنا والتلاعب به وحتى مسحه، له أهمية قصوى في الوقت الحالي. وإن المعركة من أجل المجال العام والجرافيتي والنصب التذكارية وتوثيق كل الأحداث، ومساعدة المنظمات الأهلية على توثيق الانتهاكات، واستخدام الإنترنت لكي لا يُمسح تاريخنا أو يتم التلاعب به، كلها من ضِمن الطرق التي يمكننا من خلالها التذكُّر بصورةٍ صحيحة لكي نتصدَّى للرواية الخيالية التي يحاول النظام فرضها». هكذا تقول «سالي توما»، الطبيبة النفسية والعضو المؤسس بحملة «كاذبون»، في مقالٍ تنصحُ فيه باسترجاع أحداث الثورة بطريقةٍ صحيحة من أجل الحفاظ على ذاكرة الوطن وصحتِنا النفسية.
«نحن نُحْيي الذاكرة من خلال التكنولوچيا الرقمية التي كثيرًا ما تتعارض مع الرواية الرسمية وإعلام الدولة، ولقد أصبح تخليدُ الذكرى حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان ووسيلةً للشفاءِ والاحتفاء بالأشخاص الذين قدَّموا أرواحهم في سبيل الحرية».
إن الثورة التي نعرفها تستحقُ إجاباتٍ أطول على أسئلة عليّ، جديرٌ بها أن يُحكى عنها لِمَن يعرفها عن قُربٍ ومَن سَمِع بها مِن مكانٍ قصيّ. ثماني عشرة يومًا لم تبخل علينا بالمُعجزاتِ ولا التفاصيل المُقدَّسة. لا كانت أرواحُ صُحبة الميدان عاديةً ولا عادت أرواحنا كذلك. إن كانت أصواتُنا جُرحَت من طول الهتاف، فلن تخبو طويلًا قبل أن تعلو من جديد لتروي الحكاية، كل الحكاية، بحلوِها ومرِّها. نحكي لنُشبِّك أيدينا بأيدي رفاق الميدان، نعود لبعضنا بعضًا ليقول أحدُنا للآخر: أنا هُنا. أنا أذكُر، لأن «الثورة جميلة وحلوة وانت معايا».
*العنوان الفرعي للمقال مأخوذ عن أغنية «ق» لـ«علي طالباب».
كنتُ في عرض فيلم قصير ضمن إحدى الفعاليات السينمائية في القاهرة يتلوه نقاش مع الصُنَّاع…
نُشر هذا المقال أولًا على موقع «بي أوبن»، النسخة التجريبية لـ«منشور»، عقب الدورة الثامنة من…
ربما قد سمعت المصطلح من قبل خلال متابعتك مهرجانًا سينمائيًا ما، أو شاهدت قناة تليفزيونية…
يقول أحدهم: «إننا نسافر؛ لا لنهرب من الحياة، بل لئلا تهرب الحياة منا»، ويُقال الكثير…
في عالم موازٍ، لا أتبنى مصطلح «أفلام المرأة»، لكن ثمة نظرة تُقسِّم العالم إلى قسمين:…
في الذكرى الخامسة لـ ثورة ٢٥ يناير، نُشر هذا المقال على النسخة التجريبية لموقع منشور…
This website uses cookies.