المقر السابق لدار عرض وسينما زاوية في القاهرة
المقر السابق لسينما زاوية

سينما زاوية، أكثر رحابة: حكاية طابور طويل أمام دار عرض في القاهرة

حكاية سينما زاوية والأفلام المستقلة البديلة

نُشر هذا المقال أولًا على موقع «بي أوبن»، النسخة التجريبية لـ«منشور»، عقب الدورة الثامنة من «بانوراما الفيلم الأوروبي» التي نظمتها سينما زاوية عام ٢٠١٥.

خلال سنوات دراستي بجامعة القاهرة، كُنتُ أتردد على مقر الهيئة المصرية العامة للكتاب الموجود داخل الحَرَم، حيث لا يذهب الكثير من الطلاب، إذ ربما لا يعلمون بوجوده أصلًا، وهذا بالتحديد ما كان يجذبني إليه. كنتُ أبحث عن الكتب الأكثر غرابة، والأغلفة غير المثيرة للاهتمام، والعناوين التي لا تلفت أحدًا. أودِعها إيمانًا غيبيًا عادةً ما كان يُخذَل، لكن شعورًا بالخصوصية هو ما كان يبقى؛ أن أحدًا غيري لم يؤمن بتلك الرواية، وأن ذلك الديوان لم يُمنح فرصة، وأنني، بشكلٍ ما، كنتُ، دون غيري، مَعنيةً بتلك الصفحات.

تلك هي خُلاصة تجربة سينما زاوية، التي سُميت بالأساس نسبةً إلى خصوصيتها، فـ«زاوية» هي إحدى قاعات سينما «أوديون» بوسط القاهرة، قاعة واحدة صغيرة المساحة، كافح مؤسسوها لعشر سنوات قبل أن ينجحوا في إطلاقها، في مارس 2014، لتصبح «سينما للأفلام اللي مابتنزلش السينما».

في البداية، اعتمدت المُبادرة، المُمولة من قِبَل شركة «أفلام مصر العالمية – يوسف شاهين» على نجاح تجربة «بانوراما الفيلم الأوروبي»، التي تُموِّلها الشركة أيضًا، ولكن «زاوية» لم تنتظر جمهور المهرجان، الذي يُلقي الضوءَ على السينما الأوروبية، وحسب، بل عملت على جذب شرائح وأعداد أكبر من المهتمين بالسينما «الفنية» أو «البديلة» أو «المُستقلة»، بما فيها الأفلام التسجيلية والوثائقية والقصيرة، التي قد يُسميها البعض أفلامًا «غير تجارية»، غير أن تلك التسمية قد لا تستمر طويلًا، فيبدو أن للـ«زاوية» الصغيرة مفعولًا كبيرًا.

البانوراما أولًا أم سينما زاوية؟

تقرير عن انطلاق بانوراما الفيلم الأوروبي في سينما زاوية عام ٢٠١٢

على الرغم من أن «بانوراما الفيلم الأوروبي» هي التي مهَّدت لظهور «زاوية»، إلا أنني لا أستطيع الفصل بين المبادرتين، أو ترتيبهما بحيث تسبق إحداهما الأخرى زمنيًا، فالفكرتان من نفس العمر تقريبًا، على اختلاف تاريخ بدء نجاحهما الحقيقي، وقد احتاجت كلٌ منهما الأخرى، فالـ«بانوراما»، التي انطلقت عام 2004، أنجبت «زاوية» في 2014، لتحتضن «زاوية» منذ ذلك الوقت عروض الـ«بانوراما»، ولتصبح الابنة، بعد مرور أقل من عامين على ولادتها، أكبر فعليًا من والدتها، فـ«بانوراما الفيلم الأوروبي» بدوراتها الثمانية المُنقضية، التي استمرت كلٌ منها لمدة عشرة أيام، تُعد الآن أصغر عُمرًا من «زاوية»، التي لا ينقطع نورُها تقريبًا طوال العام.

يقوم نفس فريق العمل، الذي يتكون معظمه من الشباب، على المشروعين، فبينما يعمل على مدار السنة على تنظيم برامج وفعاليات سينما «زاوية»، يتفرغ في نوڨمبر من كل عام لتنظيم «بانوراما الفيلم الأوروبي». لذلك، فعندما نذكُر الـ«بانوراما» فيما يلي، فإننا بالضرورة نعني «زاوية»، والعكس صحيح.

صدى الحكايات الأوروبية يتردد في القاهرة ويسافر إلى الصعيد

اختُتمت، مطلع هذا الشهر (ديسمبر ٢٠١٥)، الدورة الأحدث من «بانوراما الفيلم الأوروبي»، الثامنة في الترتيب الزمني، وربما الأبرز والأنجح في تاريخ المهرجان. بدأت العروض في الخامس والعشرين من نوڨمبر، واستمرت حتى الخامس من ديسمبر الجاري.

في قلب القاهرة، حَكَت شاشات سينما «زاوية»، القريبة من ميدان «طلعت حرب» (سابقًا)، وسينما «كريم»، الكائنة بشارع عماد الدين، 65 حكاية من 26 دولة. ردَّدت بعض دور العرض القاهرية الأخرى ما قصَّته شاشتا المهرجان الرئيسيتان، كما شارك كلٌ من المركز الثقافي الفرنسي، والألماني، والإيطالي بسردٍ أو أكثر، وللمرة الأولى في تاريخ المهرجان، امتدَّ صدى بعض الحكايات الأوروبية ليصل إلى خارج العاصمة المصرية، فتناقلت بعض المحافظات الأخرى ما اعتادت القاهرة احتكاره، وذلك من خلال شاشات سينما «أمير» بالإسكندرية، و«ريڨولي» بطنطا، و«سيتي سكيب» بالمنيا، الواقعة بصعيد مصر.

عمَّا كانت الحكايات

إعلان الدورة الثامنة لبانوراما الفيلم الأوروبي

على الحكايات أن تُحكى، وألا يُحكى عنها، فإذا كنت لا ترغب في مُختصر عمَّا حملت الـ«بانوراما» من قصص، يمكنك القفز مباشرةً إلى العنوان التالي.

هذا العام، قُسِّمت أفلام المهرجان إلى ثمانية أقسام:

السينما الأوروبية: ضم هذا القسم مجموعةً من الأفلام المُنتَجة في دولٍ أوروبية خلال العامين 2014 و2015، كان من أبرزها فيلم «45 عامًا» (45 Years)، وفيلم افتتاح المهرجان، «أمي» (My Mother)، و«جراد البحر» (The Lobster)، و«ڨيكتوريا» (Victoria)، الذي تم تصويره كاملًا كلقطة واحدة مُدتها 140 دقيقة.

مخرجون جُدد (أفلام العمل الأول): للعام الرابع منذ إنشائه، لَفَت هذا القسم الأنظار للأعمال الأولى الواعِدة لبعض المخرجين الجُدد، من بينها فيلم «تُصبحين على خير يا أمي» (Goodnight Mommy)، الذي قد يُعتبر الوحيد من فئة الرعب بين أفلام المهرجان.

موعد مع الفيلم التسجيلي: منذ انطلاق الـ«بانوراما» وهي تعرض أفلامًا وثائقية تتناول موضوعاتٍ مختلفة في هذا القسم. ربما يمكن اعتبار «الإنسانية» هي الطابع أو «الرسالة» الغالبة على اختيارات هذه الدورة من الـ«بانوراما» بشكلٍ عام، والأفلام التسجيلية بشكلٍ خاص. يتجلَّى هذا الخط في فيلم «إنسان» (Human)، الذي يتكون من لقطات قريبة، مُوحَّدة الحجم والإضاءة والخلفية، لأشخاصٍ من مختلف بلدان العالم، يحكون قصصهم ويعبرون عن آرائهم في مختلف الموضوعات التي يطرحها الفيلم، الذي أتاحه صُناعه للمشاهدة عبر موقع يوتيوب. أما فيلم «كان وأصبح» (To Be and to Have) فيمكن اعتباره يتناول الموضوع نفسه، ولكن من خلال الأطفال، كما يوثَّق فيلم «إيمي» (Amy) حياةَ المُغنية البريطانية «إيمي واينهاوس» (Amy Winehouse)، التي يُعتقد أنها تُوفيت إثر تناولها جرعة زائدة من الكحول.

اقرأ أيضًا: ما هو الفيلم التسجيلي؟

شيك على بياض (كارت بلانش): استُحدث هذا القسم العام الماضي ليتيح لبعض المخرجين المصريين اختيار بعض الأفلام لعرضها ومناقشتها مع الجمهور خلال المهرجان. هذا العام، اختار المخرج المُخضرم «محمد خان» الفيلم البريطاني «مساء السبت وصباح الأحد» (Saturday Night and Sunday Morning)، فيما اختار «عمرو سلامة» فيلم «البحر الداخلي» (The Sea Inside)، المأخوذ عن قصة حقيقية، واختارت «هالة جلال» فيلم «لو هاڨر» (Le Havre)، الذي يمزج بين الكوميديا والدراما في آنٍ واحد.

إضاءة على سينما البلقان: احتفالاً بالذكرى العشرين لنهاية حرب «البوسنة والهرسك» (1992-1995)، اختار القائمون على الـ«بانوراما» خمسة أفلام تُركز على الصراع والقضايا المُعاصرة المُرتبطة بمعاناة الماضي. على سبيل المثال، يتعرَّض فيلم «ثلاث نوافذ ومشنقة» (Three Windows and a Hanging) لقصةٍ تدورُ أحداثها في إحدى قرى «كوسوڨو»، حيث يكتشف رجال القرية أن ثلاثةً من نسائها قد تعرَّضوا للاغتصاب أثناء الحرب، ويبدأ الجميع في الشك في نساء بيته، وسط مجتمعٍ ينظر لضحايا الحادث باعتبارهن «عارًا» لا ضحايا.

كلاسيكيات الـ«بانوراما»: يضم القسم ثلاثة أفلام لهذه الدورة، لعل أكثرها إثارةً للاهتمام هو فيلم «ماء النيل» (L’Eau du Nil)، الذي يعتبره البعض أول فيلم فرنسي ناطق، وتدور أحداثه بين القاهرة والصعيد.

ملتقى الطرق: أُضيف هذا القسم بدورة هذا العام، ويهدف لإلقاء الضوء على أفلام تم التعاون في إنتاجها بين أوروبا والدول العربية، وقد جاءت اختيارات الأفلام جميعها سياسية. أربعة من أصل خمسة أعمال جاءت معنية بالدول العربية، بينما يتتبع فيلم «خطاب إلى الملك» (Letter to the King) قصص مجموعة من اللاجئين الأكراد الذين يعيشون في مُخيمٍ في النرويج.

سينما مانويل دي أوليڨيرا: يأتي التكريم السنوي للإخراج هذا العام ليُحيي المخرج البرتغالي ذي المسيرة الطويلة «مانويل دي أوليڨيرا»، الذي رحل في أبريل الماضي، وذلك من خلال عرض أربعة من أفلامه.

بالإضافة إلى ذلك، عرضت الـ«بانوراما» مجموعةَ أفلامٍ قصيرة من اليونان عن الأزمة الاقتصادية الأخيرة، ويمكن الرجوع إلى التفاصيل الكاملة لأقسام وخيارات الـ«بانوراما» لهذا العام على الموقع الرسمي للمهرجان.

سينما زاوية لا تتركك وحيدًا

جمهور سينما زاوية يقف أمام مدخلها
جمهور سينما زاوية يقف أمام مدخلها

كشخصٍ ليست لديه مشكلة مع مشاهدة الأفلام بمفرده، أرى تجربة السينما ممتعة حتى وإن لم أشاركها أحدًا، لكن «زاوية» تأخُذ الأمر لما هو أبعد من ذلك، فهُناك فريقٌ من المهووسيين بالسينما، الذين لا يكتفون بمشاهدة الأفلام، بل يحبون أن يقرأوا، ويتحدثوا، ويكتبوا، ويتعلموا عنها. لذلك، فحتى إن ذهبتَ إلى «زاوية» وحيدًا، ستجد مَن يتحدث معك، ويهتم برأيك.

ذات مرة، بعد عرض فيلم «إنسان» (Human) في ثاني أيام الـ«بانوراما»، كان الحاضرون قد تشبَّعوا بتجربة مشاهدة تطول لأكثر من ثلاث ساعات، بينما حاولت «مروى مَزيَد»، الحاصلة على ماچستير في داراسات السينما من جامعة واشنطن، أن تجذبهم بلطفٍ للمشاركة في نقاشٍ مفتوح عن الفيلم بدلًا من المغادرة سريعًا. بعد استقرار المهتمين في أماكنهم الجديدة بقربِها، لم يبلغ عدد الحضور عشرة أشخاص، فبدأت حديثها: «أنا لا أشعر أن المُراد من الأفلام أن تُشاهَد وتُنسى، دون أن نحظى بفرصة للحديث عنها».

كان لـ«مَزيَد» نقاشٌ مفتوح مع الجمهور بعد معظم العروض التسجيلية، كما تبِعَت معظم الأفلام الروائية نقاشاتٍ مع صُناع الفيلم أو أبطاله أو مَن عاصروا تجربته. «زاوية»، التي تعرف جمهورها جيدًا، تعتمد في نقاشاتها على لغةٍ بسيطة يفهمها الجميع، لن تشعر معها بأنك وسط محاضرة لمُختصين يستخدمون مصطلحاتٍ لا تفهمها. يربط القائمون على إدارة النقاش بين فيلم اليوم والفيلم الذي سَبَق عرضه أو الذي سيُعرض فيما بعد خلال الـ«بانوراما»، ويشيرون للعلاقات بين القصص والأطروحات التي تتناولها الأفلام.

في كل لحظة، ودون أن تشعر، ينمو جزءًا جديدًا من إيمانك بأن التجربة السينمائية لا تنحصر في الساعة ونصف أو الساعتين مُدة عرض الفيلم الواحد، وإنما يُمكن لها أن تمتد لتُرافقك عمرًا بأكمله، تبعًا للحكاية وما تركته وما قد تغيِّره فيك.

اقرأ أيضًا: ٦ أفلام سافر أبطالها وحدهم

لا مجال هُنا لإخفاء كتب الهيئة العامة غير المثيرة للاهتمام حتى لا يلحظها المتطفلون. هذا المكان يشجعك على أن ترفع صوتك، بكامل إرادتك، لتحكي للآخرين، الذين يشاركونك لحظةَ متعةٍ خالصة، عما يدور ببالك وما تَركتْ الحكايةُ في نفسك. أما إذا كنت شديد الخجل بدرجةٍ لن تنفع معها المحاولات اللطيفة لجذبك للمشاركة، فستظل أفكار الآخرين تُضيء لك دروبًا لم تكن لتسلكها دون أن تستمع إلى نقاشاتهم، وستظل بانتظارك، على باب القاعةِ عند الخروج، قُصاصةٌ طُبع عليها خمس نجوم، تُحَكِّم إصبعَك ليقطعها عند النجمة ذات الرقم المناسب لتقييم الفيلم.

سينما زاوية تفوح برائحة الثورة

أحد القائمين على سينما زاوية يتحدث عن فكرة إنشائها

تحكي «ماريان خوري»، صاحبة فكرة مشروع «زاوية» ورئيس «بانوراما الفيلم الأوروبي»، عن فشل تجربةٍ مُماثلة حملت اسمًا مختلفًا منذ ست سنوات، عندما حاولت ترويج «السينما المختلفة» انطلاقًا من أحد أشهر المراكز التجارية بمدينة نصر بالقاهرة، «سيتي ستارز» (City Stars Mall)، لكن «خوري» تعود لتشير لأسباب نجاح التجربة الآن، تحت اسم «زاوية»، لتضع على رأسها قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، واختيار المقر الحالي ليكون في قلبِ الحدث، الذي قد يكون أكبر خَيبات الجيل الذي يرتاد «زاوية» بالنظر إلى نتائجه السياسية، لكنه، من وجهة نظر الكثيرين، السبب وراء مَوجَةٍ عالية يشهدها الوسط الثقافي والفني المصري على مدار السنوات الأخيرة.

يقوم على الفكرة شبابٌ من الجيل الذي تمرَّد، يختار أفلامًا غير سائدة، وصادمة في كثير من الأحيان. لا تقنعه المواعيد المُعتادة لحفلات دور العرض المصرية، فيستحدث توقيتاتٍ جديدة لتناسب العائدين من أعمالهم، والذين لا يريدون التأخُّر ليلًا: حفل 7:30 و10:00 مساءً بدلًا من 6:00 و9:00 مساءً و12:00 منتصف الليل في معظم دور العرض الأخرى.

يُدرك الفريق نقاط القوة التي يمكنه استغلالها، ويُدرك ما يُحرِّك جمهوره، فيركز اهتمامه وجهوده التسويقية على وسائل التواصل الاجتماعي، ويُحدِّث الجيل، الذي ينتمي إليه، بلغته، فبالإضافة إلى جداول العرض والكُتيبات، التي يجعلها متاحةً دائمًا، مطبوعةً وعبر الإنترنت، يستخدم مُلصقاتٍ (stickers) ودبابيس (pins) تواكب طُرق الدعاية المُغايرة التي انتشرت بعد الثورة، واستُخدمت لرفع شعارات مُختَلف الحركات السياسية، وصور الشهداء، حتى باتت شائعة في الجامعات ووسائل المواصلات والشوارع، بل وسببًا في توجيه التُهم وجزءًا من الأحراز في عدة قضايا منذ الثورة.

قد يهمك أيضًا: ثورة ٢٥ يناير – تركة سنوات من الخذلان

«زاوية» لا تخشى المخاطرة، ولا التحوُّل إلى قناةٍ مهجورة تعرِضُ أفلامًا نساها الزمن، فإلى جانب عروض الأفلام «الحديثة» التي تم إنتاجها في السنوات الأخيرة، تُنعش «زاوية» ذاكرة جمهورها من حينٍ لآخر بعروضٍ لأفلام قديمة، من بينها أفلام مُصورة بالأبيض والأسود، بدءًا من أسبوع أفلام «يوسف شاهين» في سبتمبر 2014، مرورًا بفعالية إعادة اكتشاف «داوود عبد السيد»، التي نُظِّمت بحضوره، وعرض فيلم التسعينيات الأبرز «آيس كريم في جليم»، وحتى أسبوع إعادة اكتشاف «رأفت الميهي»، الذي سبق عروض الدورة الثامنة من «بانوراما الفيلم الأوروبي» بفترةٍ قصيرة.

لا تهتم سينما زاوية بمُحبي السينما الحاليين فحسب، ولكن تسعى لجذب مُحبين جُدد، وتعليمهم المزيد عن تلك الحكايات التي تُعرض على شاشةٍ كبيرة. تُنظم «بانوراما الفيلم الأوروبي» عروضًا يحضرها طُلاب المدارس والجامعات، كطلاب جامعة «أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب» (MSA)، تَليها نقاشات حول الأفلام وصناعتها، في إطار مبادرة «التعليم والسينما».

تمامًا كأثر الثورة الأول، لا يمكن تجاهل أثر «زاوية»، فتلك القاعة الصغيرة، ذات الباب الخلفيّ، باتت تمتلك جمهورًا وفيًا، ليس فقط من مُحبي السينما، بل ومن صُنَّاعها. على مدار سبعة عروض حضرتُها خلال الـ«بانوراما»، لاحظت وجود العديد من الوجوه المعروفة، كالمخرج المصري «يسري نصر الله»، والمُمثلتين «مُنى هلا»، و«هبة عبد الغني»، وغيرهم من أبطال وصُناع السينما «التجارية» و«المُستقلة»، بل والإعلانات.

لكنَّ الأخطاءَ تحدُث

إعلان فيلم Victoria 2015

على الرغم من كون الـ«بانوراما» لا تشبه غيرها من المهرجانات، سواءً في اختيار الأفلام أو غيرها من الجوانب التي تُميِّزها، إلا أن دورتها هذا العام كادت تلتقط أسوأ عدوى قد تُصيب مثل تلك الفعاليات: سوء التنظيم، ولكن بالنظر إلى حجم هذه الدورة، وانتشار عروضها على مستوى القاهرة وخارجها، واختيارها لأفلامٍ مُميزة، بعضها لم يكن قد عُرض بعد في بلدانه الأصلية أو أي مهرجان آخر، يمكننا فهم التخبُّط التنظيمي الذي أُصيبت به الـ«بانوراما» هذا العام، في العروض المزدحمة خاصةً، فقد طال وقت انتظار الجمهور أمام شباك التذاكر، فتأخرت العروض طويلًا عن موعدها المُعلن، كما لم يتم الاستعداد للتعامل مع التفرِقة المحتومة في التعامل مع عملاء «ڨودافون»، الذين يحجزون تذاكرهم سلفًا عبر الشركة، وغيرهم ممن دفعوا مُسبقًا عبر الإنترنت، والعملاء الذين حضروا للحجز قبل موعد عرض الفيلم بقليل.

ثمة تساؤلات أخرى طرحها محبو الـ«بانوراما»، وبالتحديد هؤلاء الذين ترددوا عليها كثيرًا وحضروا أكثر من عرض في يومٍ واحد. لماذا مثلًا تم اختيار «زاوية» لتحتكر عروض أفلامٍ بعينها مثل «عصابة صغيرة» (Aniki Bóbó)، «وماء النيل» (L’Eau Du Nil)، و«الجبل السحري» (The Magic Mountain)، و«ثلاث نوافذ ومشنقة» (Three Windows and a Hanging)، إذ لم يتكرر عرضها في أي من دور العرض الأخرى التي تستضيف المهرجان؟ في الوقت نفسه، أُعيد عرض بعض الأفلام الأخرى، لأكثر من مرتين، دون منطقٍ واضح، فلم تكن مثلًا الأفلام التي يُتوقع أن تشهد إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، مثل فيلميّ «الدرس» و«أنا مع العروس»، اللذين عُرضا مرتين في سينما «زاوية» ومرتين في سينما «كريم».

بالإضافة إلى غرابة توزيع الأفلام على دور العرض، لم تكن سياسة اختيار توقيتات العرض واضحة هي الأخرى، فقد تمت جدولة بعض الأفلام بما جعل فيلمين مُهمين يُعرضان في نفس التوقيت أو متتاليين، كـ«ڨيكتوريا» (Victoria) و«الشمس العالية» (The High Sun)، الأول في سينما «كريم» والآخر في سينما «زاوية»، اللتين تفصلهما عدة شوارع في وسط القاهرة، مما أجبر المُنظمون فيما بعد على تأخير عرض الفيلم الثاني نتيجةً لتأخير بدء الأول بسبب الإقبال الشديد، لكي يمنحوا الجمهور وقتًا للانتقال، مما أدى بدوره لغضب الجمهور الذي لم يرغب إلا في حضور الفيلم الأخير، ولا ذنب له في تأخير عرض فيلم آخر لا يهمه.

كانت قواعد استخدام «كارنيهات البانوراما»، المُخصصة للطلبة وصناع السينما والصحافيين غير مفهومة أيضًا، كالسماح بإصدارها مجانًا للصحافيين، بينما تُكلِّف الطلبة 35 جنيهًا مصريًا، مما يمكن تفسيره بنظرية الربح المتبادل، كون وجود الصحافيين يضمن تغطيةً جيدة للحدث، ولكن ذلك يدفعنا للمطالبة بمزيدٍ من الدعم للطلاب، وصُنَّاع السينما، وغيرهم من مُحبي الأفلام الذين لا يستطيعون تحمُّل تكاليف الحضور المُكثَّف لعروض الـ«بانوراما»؛ حتى مع انخفاض أسعار التذاكر.

أما الترجمة فكانت ضمن أكبر عيوب الـ«بانوراما» لهذا العام، فقد عُرِضت الكثير من الأفلام الإنجليزية، كفيلم «المِشعاع» (Radiator)، دون ترجمة، بينما عُرضت بعض الأفلام الأخرى بترجمة إنجليزية فقط، كفيلم «إنسان» (Human)، على افتراضٍ غير عادل بتمكُّن جميع المشاهدين من اللغة الإنجليزية. في الوقت نفسه، جاءت بعض الترجمات رديئةً أو خاطئة، بما فيها ترجمة عناوين الأفلام نفسها، كعنوان فيلم (On the Bride’s Side) الذي تُرجم وطُبع في جداول الـ«بانوراما» بمعنى «من جانب العروس»، قبل أن يُعدِّله الفريق، على صفحة المهرجان الرسمية، ليُصبح «أنا مع العروس».

رُبما يُرَد على كل الانتقادات بأننا «لا نستطيع إرضاء الجميع»، ولكن ماذا عن إطالة فترة المهرجان وحُسن توزيع الأفلام على دور العرض والجداول لضمان إرضاء عدد أكبر من مُحبي السينما؟

سينما زاوية تنتزع قاعة السينما التجارية

تكدس الجمهور داخل عرض زاوية
تكدس الجمهور داخل دار عرض زاوية

السبت، ٢٧ نوفمبر.. كنتُ قد تعلَّمت الدرس من اليوم السابق عندما ذهبت لحضور فيلم «45 عامًا» (45 Years) لأجد القاعة محجوزةً بالكامل عدا الصف الأول المُقابل للشاشة مُباشرةً، فحجزتُ هذه المرة مُسبقًا بعدما توقعت حضورًا كبيرًا في عرض فيلم «جراد البحر» (The Lobster)، وقد كان، فقد وصلتُ قبل موعد العرض بحوالي ساعة، لأجد طابورًا طويلًا يمتد من خارج باب السينما وحتى شباك التذاكر.

«الناس كانت في الشارع.. أنا قلت: أنا فين؟ مش فاهمة»، تقول رئيس المهرجان عن ذلك العرض الذي أجبَر سينما «أوديون» التجارية على فتح قاعتها الكبيرة لجمهور «زاوية»، في مشهدٍ لم يمكنني تمريره دون الوقوف عند رمزيته، فالـ«زاوية» الصغيرة، التي يدخلها الجمهور من بابٍ خلفيّ لسينما «أوديون» التجارية ذات القاعات الواسعة، قد استطاعت أن تُكَوِّن جمهورًا يفرض على السينما «الكبيرة» أن تُفسح المجال لعرض الأفلام «المختلفة» في القاعة التي عادةً ما تعرِض أفلامًا «تجارية» بحتة.

اقرأ أيضًا: ٥ من أجمل أفلام البطولات النسائية

تلك القاعة الصغيرة، ذات الـ«كافيتيريا» ودورة المياه الصغيرتين، التي كانت تعتبِر بيع 14 تذكرة في أحد أيام أسبوعها الأول إنجازًا، الآن تستقبل طوابيرًا تُفتح لها قاعات السينما المُجاورة، وعلى العكس من مقر الهيئة العامة للكتاب، الذي لا يعرف أحد بوجوده، يسأل الناس عن عنوانها ويبحثون حتى يصلوا لتلك البوابة الصغيرة بجوار محل قطع الغيار، الذي يقع فيما يُشبه حارةً شعبيةً صغيرة، وتُقابله «قهوة بلدي» تعمل غالبًا «على حِس» جمهور «زاوية».

في ذلك المكان الذي لا يتوقعه أحد، ولا يَتوقَع منه أحد، بات الكثيرون يودِعون إيمانًا غيبيًا. يذهبون إلى سينما زاوية، دون أن يعرفوا ما تعرِض، وفي معظم الأحيان، لا يُخذلون، ولأن الجمال الحقيقيّ يُعلِّمُك الُمشاركة، لا ينطبق على «زاوية» منطق إخفاء سرِّها للاحتفاظ بخصوصيتها المُقدَّسة.. السينما دائمًا فكرة جيدة، و«زاوية» فكرة مثالية.

مصادر: بانوراما الفيلم الأوروبي، كسرة، الفن عنوان (2014)، الفن عنوان (2015)، مدى مصر

* تم الاعتماد على ترجمات سينما زاوية (بانوراما الفيلم الأوروبي) الرسمية لعناوين الأفلام، لتجنُّب تشويش القُرَّاء بين الترجمات المختلفة.

More Stories
لقطة من النسخة المُصورة لأغنية «غابة» لمغني الراب المصري مروان بابلو
«الصورة مش واضحة بس مش هتفرق»: هل نحتاج إلى فهم الفن؟